|
نفحات قرآنية |
البحث في المنتدى |
بحث بالكلمة الدلالية |
البحث المتقدم |
الذهاب إلى الصفحة... |
|
أدوات الموضوع | إبحث في الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||||||||||||||||||
|
||||||||||||||||||||
(5)من قوله تعالى ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق الآية 33 ~
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: ثم بعد ذلك لمّا نهى عن قتل الأولاد الذي يكون بسبب خشية الفقر الذي يوقع في الفاحشة نهى عن قتل النفوس، وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا [سورة الإسراء:33]، وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، يقول الضحاك: "هذا أول ما نزل من القرآن في شأن القتل"[1]، هذه السورة مكية. النفس قيل لها: نفس؛ لما جعل الله فيها من النفاسة، وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ (بالحق) الباء للمصاحبة، قتلاً مصاحباً للحق، في حديث ابن مسعود المتفق عليه: لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: -وذكر-النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة[2] ويدخل فيه أيضاً كل ما أمر الشارع بقتله، كما جاء في الساحر[3]، وكذلك من عمل عمل قوم لوط -أعزكم الله- فقد صح فيه الحديث أنه يُقتل[4]، وما إلى ذلك. وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا، هذا الذي يُقتل وهو مظلوم يقول: فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ، القصاص، جاء في نصوص أخرى ما يُخرج القتل خطأً، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا [سورة النساء:92]، وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا، لم يُحدد الآلة التي قُتل فيها، فدل على أن ما يَقتل عادة يدخل في ذلك، يعني سواء كان بمحدد أو بمُثقل. وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا، (لوليه) ولي الدم، (سلطاناً)، يعني: إن شاء استقاد، وإن شاء الدية، وإن شاء عفا عنه، كما يقول كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير -رحمه الله[5]، وبعضهم يقول: إن السلطان المراد به هنا القتل، قالوا: القرينة التي تدل عليه أنه قال: فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ؛ لأنه اختاره بعد أن ذكر السلطان، مما يدل على أن السلطان هنا هو ذلك القتل المنهي عن الإسراف فيه، قال: ويدل عليه أيضاً: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [سورة البقرة:178]، إلى قوله: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [سورة البقرة:179]. جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا، السلطان هو الحُجة، فلما ثبَّت هذا الولي ثبَّت القتيل بحجة ظاهرة سماه سلطاناً، فصار له سلطة على القاتل كما يقول ابن كثير -رحمه الله-[6] حيث صار بالخيار فيه إن شاء قتله قوداً، وإن شاء عفا عنه على الدية، وإن شاء عفا مجاناً، جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا، تسلطاً عليه، على هذا القاتل. فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ، قرأ الجمهور: يُسرف يعني: الولي، وفي قراءة أخرى لابن عامر وحمزة: فلا تُسرف، يعني: فُسر بالقاتل، لا تُسرف أيها القاتل فإنك ستقف في يومٍ حيث يُقتص منك، ستقوم في مقام القصاص، وذهب بعض أهل العلم كابن جرير -رحمه الله- إلى أن المخاطب بذلك هو النبي ﷺ وللأمة من بعده[7]. فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ، يعني: يا من تقتص. يكون الإسراف في القتل بقتل غير القاتل، كما كان العرب يفعلون ذلك في الجاهلية، يعني: يعتقدون أن هذا المقتول لا يكافئه القاتل، وإنما يكافئه شيخ القبيلة أو رئيس القوم، أو لا يكافئه إلا الفارس الفلاني من القبيلة، أو الشريف الفلاني من القبيلة ولا ذنب له فيقتلونه به، أو أنه لا يُكافئه إلا عشرة أو مائة أو ألف من هذه القبيلة، فيقتلون هؤلاء ظلماً وعدواناً، فهذا كله محرم. ومن صور الإسراف في القتل التمثيل بالقاتل، يتشفى فيفعل ذلك به، هكذا كانوا يفعلون في جاهليتهم، يقول الشميذر الحارثي: فلسنا كما كنتم تصيبون سَلَّةً فنقبل ضيماً أو نُحكِّم قاضيا ولكنّ حكمَ السيف فيكم مُسلطٌ فنرضى إذا ما أصبح السيفُ راضيا[8] نحن لا نقبل تحاكمًا، وإنما حتى يرضى السيف، هذه شريعة الغاب، شريعة الجاهلية. والمُهلهل يقول في الأخذ بثأر أخيه كُليب: كلُّ قتيلٍ في كُليبٍ غُرّهْ حتى ينال القتل آل مُرّهْ[9] وكانت كبشة بنت معدي كرب -وهي مسلمة- تقول في أخيها عبد الله لما قُتل: فيَقتلُ جبراً بامرئ لم يكن له بَوَاءً ولكنْ لا تَكَايُلَ بالدمِ[10] تقول: ما هو بكُفء له ولا بنظير له، هكذا، لا بواء، لم يكن له بواءً ولكن لا تكايل بالدمِ، يعني: رضخت لحكم الشرع، وإلا فالقاتل ليس بكُفء له. المقصود أن الله -تبارك وتعالى- قال: فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ، القراءة الأخرى: فلا تُسرف في القتل، لا تُسرف أيها القاتل، أو لا تُسرف أيها المُقتص في القتل، وهذا المعنى الثاني أنه موجه للأمة كما يقول ابن جرير -رحمه الله- يدل عليه قراءة لأُبي غير متواترة: "فلا تُسرفوا في القتل إن ولي القتيل كان منصورا"، ولي القتيل إنه كان منصورًا، الضمير يرجع إلى ولي الدم، يُنصر على القاتل، وهذا اختاره ابن جرير -رحمه الله-[11]، وبعضهم يقول: هذا يرجع إلى المقتول، من قُتل مظلوماً أنه سينُصر في النهاية على قاتله. وبعضهم يقول: يرجع إلى دم المقتول، والذي يقتاد في النهاية هو الولي وهو الذي سيُنصر عليه، ولهذا قال ابن كثير -رحمه الله: "إن الولي منصور على القاتل شرعاً، وغالباً وقدرًا"[12]. ثم بعد ذلك نهى عن العدوان على مال اليتيم، هؤلاء الضعفاء في المجتمع الذين يحتاجون إلى اليد الحانية، وإلى الحفظ لحقوقهم وأموالهم والإحسان إليهم، حيث إنهم في حالٍ من الضعف لا يستطيعون معها الدفاع عن أنفسهم ولا حماية أموالهم، فجاء التحذير الأكيد والوعيد الشديد في حقِّ من اجترأ على أموالهم واعتدى عليها وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا [سورة الإسراء:34]. لما نهى عن إتلاف النفوس أتبعه بالنهي عن إتلاف الأموال، فكان أحق هذه الأموال بالحفظ والنهي عن الإتلاف مال اليتيم؛ لشدة طمع ضعفاء النفوس فيه؛ لأنه ضعيف، فقد يبادرون إلى أخذه وانتهاكه قبل أن يكبر، وهنا يقول الله : وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيم. وقضى أن لا تقربوا مال اليتيم، وذكر الأكل في مواضع: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [سورة النساء:10]، ذكر الأكل؛ لأنه غالب وجوه الانتفاع، وإلا لو أنه ضيع مال اليتيم بأي طريق فلا فرق، فهنا قضى أن لا تقربوا مال اليتيم بأكل إسرافاً وبداراً أن يكبروا، ولكن اقربوه بالفعلة التي هي أحسن، والخَلّة التي هي أجمل، إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، يعني: بالخصلة التي هي أحسن، وذلك أن تتصرفوا فيه بالتثمير والإصلاح والحيطة له، فيدخل في ذلك -يعني أن يقربه بالتي هي أحسن- الاتجار بأموال اليتامى، لكن بالطرق والتجارات المأمونة، يعني: قليلة المخاطر ولو كانت الأرباح قليلة، ويدخل أيضاً في ذلك التصرف لهم بالمصلحة من النفقة عليهم، ويدخل في ذلك ما إذا كان ولي اليتيم محتاجاً فقيراً فله أن يأكل بالمعروف إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، لكن وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [سورة النساء:6]. قال: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ [سورة البقرة:220]، يعني: في المأكل والمشرب، فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [سورة البقرة:220]، يعلم الذي يحتاط لمال اليتيم ومن يريد إتلافه، ولهذا المسألة ليست سهلة، وقد قال النبي ﷺ كما في صحيح مسلم لأبي ذر : إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرنّ على اثنين، ولا تولينّ مال يتيم[13]. وقد كان العرب في الجاهلية يستحلون أموال اليتامى؛ لضعفهم عن التفطن لمن يأكل أموالهم؛ ولقلة النصير الذي يقف معهم وينصرهم على من ظلمهم. إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ، الأشُد بعضهم يقول: هو مفرد بمعنى القوة، وبعضهم يقول: جمع لا واحد له من لفظه، والمقصود به ما يكون بمجموع أمرين هنا في هذا الموضع، حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ: البلوغ؛ فلا يُتْمَ بعد البلوغ. والأمر الثاني هنا: حُسن التصرف بالمال، فإنه لا يُعطَى له المال حتى يبلغ ويتصف بالوصف الآخر وهو حُسن التدبير والتصرف بالمال، ولهذا قال الله : وَابْتَلُوا الْيَتَامَى، يعني: اختبروهم، أعطه شيئاً من ماله قليلاً وانظر كيف يتصرف مرة بعد مرة. وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ [سورة النساء:6]، هذا الوصف الأول بلوغ الأشد، إذا بلغوا النكاح، الإنسان يبلغ إذا ظهرت عليه علامة من علامات البلوغ كالاحتلام ونحو ذلك، أو اكتمل له خمس عشرة سنة، كمّلها، ولو لم يظهر عليه شيء من علامات البلوغ، حتى يبلغ أشده، وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ، بقي الآمر الآخر فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا [سورة النساء:6]، يعني: حُسن التصرف في المال، فهنا حتى يبلغ أشده ويُحسن التصرف في المال، فهذا المقصود ببلوغ الأشُد في هذا الموضع، وإن اختلف العلماء في بلوغ الأشُد من حيث هو. ثم قال: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا [سورة الإسراء:34]، نهى عن قربان أموال اليتامى. ثم قال: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا، فيدخل في العهد العهد مع الله أولاً وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ [سورة النحل:91]، وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا [سورة الأنعام:152]، مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [سورة الأحزاب:23]، الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ [سورة الرعد:20]، ويدخل في هذا -وهو من عهد الله- النذر، لله عليّ أن أفعل كذا. النذر لا يُطلب وهو مكروه، لكن إذا نذر ينبغي عليه أن يفي، يجب عليه أن يفي يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا [سورة الإنسان:7]، فهنا إذا نذر الإنسان عليه أن يوفي، كثير من الناس ينذر ثم بعد ذلك يسأل عن المخرج، وأيضًا يدخل فيه التوبة فهي عهد مع الله، يدخل فيه الإيمان فهو عهد مع الله، يدخل فيه سائر العهود وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ [سورة التوبة:75]، هذا الإنسان الذي يقول: لئن رزقني الله مالًا لله عليّ عهد أني أعطي وأتصدق وأفعل، هذا عهد مع الله . بعض الناس يقول: عهد عليّ أن أفعل كذا وكذا، فيدخل في ذلك أيضاً العهد مع الناس، كيف؟ هو لم يكن مُلزماً بهذا، ولكنه أوجب على نفسه أمراً أثقل كاهله، ولهذا كان مكروهاً -أعني النذر. يدخل في العهد إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا، العهد مع الناس، عهود، مواثيق، اتفاقيات، عقود يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [سورة المائدة:1]، ومن أعظم هذه العقود والعهود: العهود التي تُعطى لرسول الله ﷺ كالبيعة على الإيمان والنصر، العهد الذي يُعطى للزوجة بهذا الميثاق الغليظ الذي هو عقد النكاح، وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [سورة النساء:21] كيف يظلمها؟ كيف يأخذ أموالها؟ كيف يأخذ رواتبها؟ كيف يضغط عليها؟ كيف يبتزها؟ أخذت عليه هذا الميثاق الغليظ، كيف يُهددها؟ ضغوط يصبحها ويمسيها، أنا ما أقدر أستمر، أنا ما أقدر أعيش بهذه الطريقة، أنا ما أقدر، كل هذا من أجل أن تعطيه المال، وأن تنفق هي عليه وعلى بيته، لا يمكن هذا، لا يحل له ولا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب من نفسه[14]، هذا يأكل سُحتًا، هذا يأكل حرامًا، يأكل أموال الناس ظلماً. الرجل هو الذي يجب عليه أن ينفق ولو كانت امرأته تملك المليارات، القوامة، لا تقوم إلا على هذا، الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [سورة النساء:34]، القوامة تقوم على قدمين، على ساقين، على رجلين، التفضيل الوهبي والكسبي، والأمر الثاني: الإنفاق، ينفق، هو السيد. إذا كانت المرأة هي التي تنفق ما الذي يبقى من قوامة الرجل؟ وكيف يرضى الرجل بهذا لنفسه؟ فهذا عهد وميثاق، الشروط التي أخذت عليه في العقد يجب عليه أن يوفي بها، لا يهز رأسه كما يفعل بعضهم ثم بعد ذلك إذا عقد عليها لوى يدها من ورائها، وبدأ يمارس الضغوط، أنا لا أستطيع أصبر، أنا لا أستطيع أستمر بهذه الطريقة، اختاري لنفسك، كيف وافقتَ ووضعت لها الشمس بيد والقمر بيد حينما كنت خاطباً، ويقال لك: الشرط كذا والشرط كذا، تقول: نعم موافق، ثم بعد ذلك تأتي تلوي ذراعها! هذا لا يحل. فهنا: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا، وذكْرُ المسئولية هنا يدل على المحاسبة، لمّا يقال: أنت مسئول، أنت تتعرض لمُسائلة، معناها حاسب، انتبه، لن تذهب الأمور سبهللاً هكذا. ثم قال: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [سورة الإسراء:35]، فذكر الكيل والوزن الذي تقوم عليه معايش الناس، المكاييل والموازين، الاقتصاد، الأقوات، الأرزاق، معايش الناس تقوم على هذا، فإذا دخلها الخلل وفسدت فيها الذمم عند ذلك لا يثق أحد بأحد في مبايعة ولا معاملة، ويبقى التهديد للناس في أقواتهم، يلمس الحاجات الأساسية الخبز الذي يأكلونه، فغالب أنواع التعاملات والمعاطات إنما هو بالكيل والميزان. وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ، القسطاس هو الميزان، ويقال للعدل، وهما متلازمان؛ فالميزان آلة العدل، وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ، فهنا لا يحق لأحد أن يتلاعب بهذه الموازين وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة المطففين:1-6] كيف هذا؟! ثم إن هذا التطفيف يدل على دناءة في النفس وذهاب للمروءة، كما أنه يدل على ترحل الخوف من الله وقلة مراقبته، وما يعلم أن الله يعلم هذا التطفيف حينما يستغفل الآخرين بأن يُنقص في الموازين والمكاييل أو يضع ما يُثقلها دون أن يشعر الناس به من رصاص وغيره في أسافلها أو غير ذلك، فيبدو للناس أن الميزان على حال من الاستقامة، الله يعلم، هذا الإنسان الذي يبيع للناس هذه الأطعمة أو نحو ذلك ثم إذا ذهبوا إلى بيوتهم وجدوا أن هذه العبوات منفوشة بأوراق وغير ذلك، وأن ما تحويه هو شيء يسير قليل، هذا التطفيف في صور وأشياء كثيرة جدًّا، انظروا الآن إلى أبسط الأشياء هذه المناديل التي ترونها هي بالوزن وبالعد. يقول أحد العاملين في إحدى الشركات يقول: قمنا بجرد واختبار لجميع أنواع هذه المناديل العُلب، يقول: فوجدناها لا تبلغ المائة؛ لأنها مكتوب عليها مائة. إلا شركة واحدة، الباقي ليس كذلك، يعني: الغش حتى في هذا، هم يعرفونه يعني من سيعد، الغش حتى في هذا، ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ [سورة الروم:41]، كثير من الناس لا يمكن أن يترك وسيلة يغش الناس فيها إلا فعلها. يقول: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ، هذا الإنسان الذي يظن أنه يكسب ويربح حينما يستطيع أن يخدع هذا وذاك في حبات يُطففها، الناس في النهاية لن يثقوا به، هذا نظره قصير، يعني: هو ينظر الآن كيف يأخذ من هذا ويقتطع حق هذا، لكن هل سيرجعون إليه؟ الناس حينما يكتشفون أن هذا الإنسان يتعامل معهم بلون من الاستغفال لا يرجعون إليه ثانية، لكن الناس يبحثون عمن يتعامل معهم بالصدق. اليوم الإنسان يذهب إلى السوق في أي مجال من المجالات يتحير، التمور مثلا: تذهب وتجد الختم الأسبوع الماضي، ولكن الواقع أن الثمرة قد تكون من العام الماضي، ولكنها كُبست في المصنع الأسبوع الماضي، وتُباع بنصف السعر فيأخذها هذا البائع المتجول ويبيعها على أنها ثمرة هذه السنة بسعر ثمر هذه السنة، وتشتري وأنت مغتبط، عليها ختم الأسبوع الماضي من المصنع، التاريخ، والواقع أن الثمرة من العام الماضي. الدواء قد يأخذه بطرق من هنا وهناك، بتخزين لا تنطبق عليه المواصفات، بأسعار زهيدة ويبيعه للآخر بنفس السعر؛ ويُحصِّل أرباحًا كثيرة، والناس يأخذون ما يتضررون به وهم يرجون الشفاء من روائه، ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. عندما تأتي تنظر إلى أنواع الصناعات، الآلات، الأدوات تجد أن التلاعب والغش قد دخلها بصورٍ لا تخطر على بال، كأنها من إملاء الشياطين، كيف علمتهم الشياطين هذه الأنواع الخفية من الغش بحيث لا يصل إليها إنسان؟! أشياء لا تخطر على البال! من يتوقع التمر يُعرض على ليزر فيبدو في لون في حال من الصفرة والشقرة يتلألأ لدى الناظرين، وإذا ذهبت به إلى بيتك وبقي أسبوعًا عاد إلى السواد، من يتوقع هذا؟! وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ، علمهم الله كيف يتعاملون، يقول: ذَلِكَ خَيْرٌ في الدنيا وفي الآخرة، هذا الذي يثق به الناس، يبقى الناس يثقون في معايشهم، في معاملاتهم، في بضاعاتهم، في أموالهم، في غذائهم، لا يأكلون ما يضرهم. خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا أحسن عاقبةً في المآل القريب والبعيد، يبقى السوق: هذه البضاعة قيمتها كذا، هذا حق أمس، وهذا حق اليوم قيمته كذا، وهذا حق قبل ثلاثة أيام قيمته كذا، هذه الصناعة الفلانية بلا مواربة قيمتها كذا، وهذه الصناعة الفلانية قيمتها كذا، خذ ما شئت وأنت مرتاح، أمّا الخداع والغش والتزويق فيدخل الإنسان وهو في غاية الحيرة، لا يعرف كيف يكتشف أنواع الغش والتدليس، إذا أراد أن يشتري أثاثًا، أو أراد أن يشتري مواد بناء، أو أراد أن يتعامل مع عمال أو مقاولين أو غير ذلك، فتبقى حياة الناس على استقامة. وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ، قرأه ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر: القُسطاس، وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم القِسطاس، وهما لغتان، والمعنى واحد. ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا، لماذا؟ لأن التطفيف يُكسب صاحبه الكراهية والذم عند الناس، وغضب الله ، والسحت في المال، مع احتقار نفسه في نفسه، سقوط مروءته، اختلال الأمانة، انتزاع الثقة بين الناس في معايشهم، لكن الإيفاء يُكسبه ميل الناس إليه، رضا الناس عنه، رضا الله، رضاه عن نفسه، البركة في المال. ليست القضية بكثرة المكاسب، بعض الناس لربما لا يتجاوز راتبه بضعة آلاف قليلة وبنى بيتًا وزوّج أولاده وفي حالٍ مرضيةٍ وليس عليه ديون، وآخر يعمل وزوجته تعمل ومِن هنا ومن هنا ومع ذلك هو في ديون، ولا يأتي نصف الشهر وعنده شيء، لماذا؟ المسألة ليست كثرة أو قلة إنما هي البركة. بعد هذه التوجيهات علمنا منهجاً في التعاطي مع الأخبار، وفيما يتصل بالأعمال والاعتقادات وما نستقبل وما يستقر في نفوسنا، وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [سورة الإسراء:36]، (لا تقف) يعني لا تتبع، فالقفو من الاتباع، يمشي في قفاه، يعني: خلفه. مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ (ما) تفيد العموم، كل شيء ليس لك به علم، الغيبة تقال بالقفا فهي داخلة فيه، النميمة، ولهذا فُسر بهذا، وهو تفسير بالمثال، ويدخل فيه أيضاً اتباع العقائد الفاسدة والمذاهب المُضلة، ويدخل فيه تصديق الشائعات والأخبار الكاذبة، واليوم صار لهذه الأخبار سوق رائجة عبر هذه الوسائل والوسائط، تأتيه رسائل لا يعرف مصدر هذه الرسائل ثم بعد ذلك يبادر إلى النشر إعادة إرسال، فهذا لا يحل ولا يجوز. ليس لأحد أن يعتقد إلا بعلم، ولا يفعل شيئاً إلا بعلم، ولا يقبل ولا يُصدق خبراً إلا بعلم، ولا يروج شيئاً إلا بعلم، وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، فيدخل في هذا قذف أعراض الناس، الطعن في الأنساب اتباعاً للظنون، الكذب، شهادة الزور، وهكذا أيضاً سائر المزاولات، كل ما أسندته أيضاً إلى سمعك أو بصرك أو عقلك فهو داخل فيه، ولهذا قال: إِنَّ السَّمْعَ، هذا تعليل (إنّ). السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا، (إن السمع) بدأ بالسمع؛ لأن نفعه أعم وأشمل، الإنسان قد يفقد حاسة البصر ولكنه ينعكس ذلك على قلبه زكاء وذكاءً، فيكون من أعلم الناس وهو فاقد البصر، وإنما الشأن بفقد البصيرة، بصر القلب. إنْ يأخذِ الله من عينيّ نورهُما ففي فؤادي وقلبي منهما نورُ عقلي ذكي وقلبي غيرُ ذي دَغَلٍ وفي فمي صارمٌ كالسيف مشهورُ[15] فالشأن ليس هو بذهاب البصر، وإنما عمى القلوب، إِنَّ السَّمْعَ، ثم بعد ذلك السمع أنفع من البصر، السمع يسمع الإنسان الأشياء التي لا تُرى، يسمع أصوات الرياح، يسمع الأشياء البعيدة التي لا تراها الأبصار، يسمع من جميع الجهات، البصر لا يرى إلا المُتشخصات أمامه، السمع يسمع بالليل وبالنهار، البصر لا يرى ولا يبصر إلا في النهار أو إذا وجد ما يضيء له، فذكر السمع، وذكر البصر. ثم ذكر الفؤاد وهو القلب، قيل له ذلك لكثرة تفؤده، لكثرة توقده بالخواطر والأفكار، تعتلج فيه، لا يتوقف، تجد الإنسان على فراشه قد أغمض عينيه والأفكار والخواطر تعتلج، يعيد شريط اليوم ما لقي، وما شاهد، وما قال وما قيل له. فالسمع والبصر ميزابان يصبان في القلب، مصدر التلقي مما يَسمع وما يُبصر، فهذه المسموعات والمبصرات تنطبع في القلب وتؤثر فيه سلباً أو إيجاباً، الإنسان حينما يُطلق بصره ينظر إلى الحرام لابد أن يجد أثر ذلك، الإنسان حينما يسمع اللغو والكلام القبيح أو الشبهات لابد أن يعلق ذلك في قلبه، كم رأينا من أناس يعانون من شبهات مزعجة مُقلقة قد شككتهم في الثوابت، والسبب أنه أرخى سمعه لأهل الأهواء والضلالات بحجة الاستطلاع، بحجة المجادلة لهؤلاء، بحجة الترفيه وقضاء الوقت، فيسمع من أصحاب البلايا والرزايا والشبه فيتزلزل إيمانه. إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ لا تُطلق بصرك، ولا تُرخِ سمعك إلا إلى ما فيه النفع الذي يُثمر يقيناً وثباتاً وعلماً صحيحاً واعتقاداً سليماً، أما أن يكون القلب -أعزكم الله- مزبلة يُلقَى فيه عبر السمع والبصر كل مرذول من القول أو من المشاهد والصور التي تفتك بإيمانه ودينه وخُلقه فهذا أمر لا يمكن أن يرضى به عاقل لنفسه. كُلُّ أُوْلَئِكَ، يعني: السمع والبصر والفؤاد، كَانَ عَنْهُ ، الضمير هنا يحتمل، (كان عنه) يعني: أنها تُسأل عن صاحبها، لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع[16]، الإنسان يحاسب على هذه النعم، هو يُسأل عنها، (كان عنه) هو يُسأل عن هذه الأشياء، وهي أيضاً تُسأل عنه، قولان صحيحان لكل واحد منهما ما يشهد له. الله يقول: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة النور:24]، وقال: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [سورة يس:65]، وقال: حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة فصلت:20]، فهنا السمع والبصر والفؤاد كل ذلك يشهد على صاحبه كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا، هي تُسأل عنه: ماذا عمل بكِ؟ بماذا استغلكِ؟ سمع الحرام؟ نظر إلى الحرام؟ اعتقد العقائد الباطلة الفاسدة؟ هذا كله سيُسأل عنه السمع والبصر والفؤاد، يُسأل عن صاحبه، وكذلك هو يُسأل عنها بماذا استغلها؟ ويُحاسب عليها. ثم بعد ذلك قال الله -تبارك وتعالى- مؤدباً ومُعلماً لأهل الإيمان كيف يمشون، حتى المشية علمهم كيف تكون، بل هذا في أول صفات عباد الرحمن: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا [سورة الفرقان:63]، فهذا الدين يُعلم أصحابه الكمالات بجميع أنواعها من المِشية إلى أعلى الأمور، ما يتصل بالإيمان والتوحيد والاعتقاد الصحيح. وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا [سورة الإسراء:37]، لا تمشِ في الأرض مختالاً مستكبراً فإنك لن تقطع الأرض باختيالك، ولن تبلغ الجبال طولاً بفخرك وكِبرك، فهذا نهي عن الكبر والفخر والخُيلاء، وأمر بالتواضع. يقول النبي ﷺ كما في الصحيح: بينما رجل يمشي فيمن كان قبلكم، وعليه بُردان يتبختر بهما إذ خُسف به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة[17]. وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا، ذكر الأرض هنا مع أن المشي لا يكون إلا على الأرض أو على ما هو معتمد عليها، ذكر ذلك تقريراً وتأكيداً، (مرحًا)، المرح يقال لشدة الفرح، يقال لهيئة المشية إذا كانت بكبرٍ وخُيلاء، المرح يقال لتجاوز الإنسان لقدره، يقال: للبطَر والأشَر. ولا تمشِ فوق الأرض إلا تواضعًا فكم تحتها قومٌ هم منك أرفعُ وإن كنتَ في عزٍّ وحِرزٍ ومنعةٍ فكم مات مِن قومٍ هم منك أمنعُ[18] يقول له: لا تمشِ في الأرض مرحًا، مختالاً متبختراً، اعرف قدرك، إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ، حينما تضرب على الأرض بقدمك لن تنقُب الأرض، أنت أضعف من هذا، هذا معنى، وهو صحيح. المعنى الثاني: (لن تخرق الأرض) لن تقطع الأرض بمشيتك بهذه الخطوات الضعيفة، وإذا أردت أن تعرف هذا انظر إلى صورة من أعلى وأنت في الطائرة انظر إلى المساكن والمدن والسيارات وهي تمشي، بل انظر إلى صورة الحرم من أعلى والناس فيه، تجد الناس يدبّون أمثال الذر، تنظر إلى ضعفهم وإلى تضاؤل قاماتهم، هذا الدبيب أضعف من أن يخرق به الإنسان الأرض، أو أن يرفع رأسه ليطاول الجبال حينما يتعاظم ويشمخ بأنفه، يحتاج الإنسان أن يعرف قدره، انظروا إلى هذه الصورة دائماً فهي تُنبئ عن حقيقة الإنسان، صورة من أعلى تنظر إلى الطائفين، تنظر إلى الماشين في ساحات الحرم وهم في حال من الصغر، أحياناً تشك هذا إنسان، أو أن هذا من الأدراج التي للمصاحف أو غير ذلك!، هذا رجل أو امرأة! تنظر إلى الطائفين لا ترى إلا نُقطاً، صور الأقمار الصناعية، الصور التي الآن متاحة في جوجل ترى الكرة الأرضية على حقيقتها، كأنها ذرة في هذا الفضاء، ثم تُقربها فترى أبعاد القارات تقيسها برأس الأصبع لتقاربها، هذه التي يحتاج الإنسان أن يسافر أشهراً حتى يصل، ترى إذا قرّبت ترى طرفي البلاد من الخليج إلى البحر الأحمر ما يبلغ سنتيمترًا، هذه المسافة كم يدب الإنسان فيها على الجِمال؟ وكم يمشي في السيارة؟ سفر طويل، الإنسان ضعيف ينبغي أن لا يتعاظم ولا يتكبر، ولا يتبختر، ولكن يعرف قدره الحقيقي، لا يتجاوز طوره، لا يتعدى طوره. وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا، لن تنقُب الأرض كما يقول القرطبي[19] والشنقيطي[20]، أو لن تقطع الأرض بمشيتك هذه كما يقول ابن جرير[21]، والأزهري[22]، والنحاس[23]، فالخرق يقال للمَزْق، جَوْب الشيء، خرقتُ الأرض أي جُبتها، واخترقت الأرض الرياح يعني جابتها، المُخترَق هو الموضع التي تجوبه الرياح وتخترقه، كما يقول رؤبة: ................ وقاتمِ الأعماقِ خاوي المُختَرق[24]. يعني يقول: أنا قطعت مسافات وبيداء وصحراء شاسعة خاوية بعيدة المدى تقطعها الرياح، تخترقها الرياح إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ، لن تقطعها حينما تدب بهذه الخطوات الضئيلة الضعيفة بهذه القوائم الصغيرة التي هي كقوائم الذر، تنظر إلى السيارات أحياناً وأنت في الطائرة على الخطوط السريعة مثل الذر تتقابل، ذر، تقول: سبحان الله!، وتنظر إلى ما بعدهم في الطريق طلعة ونزلة تقول: هذا ما وصل إليها، لا يدري أنه بعده طلعة وبعده منعطف، ذرة لا زالت تمشي هنا في هذا المكان، ذرة، وقد تكون هذه السيارة بالنسبة إليه هي هي ما بعدها، إذا ركبها شعر بأنه قد ركب الثُّريا، ما علم أنها ذرة تمشي في هذه الأرض. إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا، يعني: لن تطاول الجبال، كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا [سورة الإسراء:38]، (ذلك) عائد على جملة ما تقدم ذكره مما أمر الله به ونهى عنه. كَانَ سَيِّئُهُ، في قراءة عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي كَانَ سَيِّئُهُ [الإسراء:38]، كما نقرأ، (مكروهًا)، يعني: كان سيئه مكروهًا، هذا خبر، وفي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو كل ذلك كان سيئةً عند ربك مكروهًا، يعني: كل ما نهى الله ورسوله عنه سيئة، وعلى هذا يكون ذلك يرجع إلى المنهيات فقط، على قراءة (سيئه) يعني: كل ما ذُكر، وهنا (كل ذلك كان سيئةً). إذن هذا يرجع إلى المنهيات، فيكون قد انقطع الكلام عند قوله: وأحسن تأويلا، ثم قال: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، وَلا تَمْشِ، ثم قال: كل ذلك كان سيئةً عند ربك مكروها، ويحتمل أن يكون من قوله: وقضى ربك، باعتبار أن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده، وابن كثير -رحمه الله- ذهب إلى أن ذلك يرجع إلى أنه من قوله: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [سورة الإسراء:31]، وما بعده من المنهيات باعتبار أن هذا أول نهي، ولكن قبله وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ [سورة الإسراء:29]. كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ، يعني: على القراءة الثانية: كان سيئةً يعني: وكان مكروها، وبهذا الاعتبار تكون السيئة يعني الذنب، كل ذلك كان سيئة، يعني: ذنباً ومعصية، وقيل غير ذلك، أخذ من هذا بعض أهل العلم كالقرطبي -رحمه الله- تحريم الرقص[25]، من قوله: وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا، باعتبار أن هذا الذي يرقص أنه يتبختر في مشيته ويختال، وقد لا يكون ذلك مما يؤخذ من هذا الموضع، والله أعلم، هذه الوصايا خُتمت بهذا، وقال: ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا [سورة الإسراء:39]. اشتملت هذه الوصايا التي أوحاها الله لنبيه ﷺ على أكثر من عشرين وصية، احسبوا معي: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [سورة الإسراء:23]، أمرٌ بالعبادة ونهيٌ عن الشرك، اثنان. الثالث: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا. الرابع، والخامس، والسادس، والسابع، والثامن: فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [سورة الإسراء:23-24]. التاسع، والعاشر، والحادي عشر: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ [سورة الإسراء:26]. الثاني عشر: وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا [سورة الإسراء:26]. الثالث عشر: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا [سورة الإسراء:28ٍ]. الرابع عشر: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ [سورة الإسراء:29]، يعني: اعتدل في نفقتك. الخامس عشر: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [سورة الإسراء:31]. السادس عشر: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [سورة الإسراء:33]. السابع عشر: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ [سورة الإسراء:33]. الثامن عشر: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ [سورة الإسراء:34]. والتاسع عشر: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ [سورة الإسراء:35]. والعشرون: وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ [سورة الإسراء:35]. والحادي والعشرون: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [سورة الإسراء:36ٍ]. والثاني والعشرون: وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا [سورة الإسراء:37]. افتتح هذه الوصايا بالأمر بالتوحيد: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ، وختمها أيضاً بالنهي عن الشرك: وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا. وهكذا هذه التوجيهات أخبر الله تعالى أنها من الحكمة، والحكمة معرفة الحقائق على ما هي عليه دون غلط ولا اشتباه، وتُطلق على الكلام الدال عليها، كما أن الحكمة الأمر بمحاسن الأعمال ومكارم الأخلاق والنهي عن أضداد ذلك. فهذه المذكورات هنا هي من الحكمة التي أوحاها ربنا -تبارك وتعالى- لسيد الخلق ﷺ، لسيد المرسلين ﷺ في أشرف كتاب؛ ليأمر بها أفضل الأمم، فهي من الحكمة التي مَن أوتيها فقد أوتي خيراً كثيراً، الحكمة هي الإصابة في القول والعمل، إيقاع الشيء في موقعه، ووضعه في موضعه، هذه الحكمة الحقيقية، ليست بآراء للبشر تخطئ وتصيب، أو تحليلات، أو توقعات أو ما إلى ذلك، هذا الكلام الجزل الذي ينبغي أن يُعض عليه بالنواجذ، والهدايات الراشدة. أسأل الله -تبارك وتعالى- أن يرزقنا وإياكم الحكمة، وأن يجعلنا من الراشدين. اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، واجعل آخرتنا خيراً من دنيانا. ربنا اغفر لنا، ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان. اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وذهاب أحزاننا، وجلاء همومنا، اللهم ذكرنا منه ما نُسينا، وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه. الموضوع الأصلي: (5)من قوله تعالى ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق الآية 33 ~ || الكاتب: نور || المصدر: منتدى امسيات
المهره♕ معجب بهذا
|
زيارات الملف الشخصي : 949 |
09-13-2024, 09:00 PM | #2 | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
جزاكك الله خير
طرح قيم سلمت الايادي
|
|
|