بحرٌ هادئ وجميل... أمواجه تتراقص بسلاسة ونعومة
لتعانق أشعة الشمس فتلألأ صفحة الماء.... كالماس منثور على قطعة حرير
المراكب كثيرة ومتنوعة صغيرها وكبيرها يمخر عُباب هذا البحر ليصل إلى غايته
مراكب خشبية صغيرة متواضعة وأخرى فارهة
منها البعيد في الأفق والقريب بجانب المرفأ
كلها على موعدٍ لتخوض عباب البحر
بغموضه وأخطاره
بعواصفه وأمواجه
بهدوئه ونسماته العليلة
بصفائه الجميل وظلمته المخيفة
بنقائه وكدرته
مركبنا الصغير يضم عائلة متواضعة
جعلت من الحياة بحراً لابد من اجتيازه
فصار مركب هذه العائلة يمخر عباب الدنيا
فمرة تتكسر مجاديفه
وأخرى تعلو به الأمواج
وحيناً تعصف به الريح
لكنه يستمر بالإبحار فهو كغيره لابد أن يبحر .... ولابد أن يكابد .... أو يغرق فينتهي
فالكل تمّر به ظروف قاسية ولن تقف الحياة عنده
الأيام تمشي والمراكب تسير عليها بهدوئها وعصفها
يوسف في احد هذه المراكب مع عائلته
وكغيرهم يتعرضون لكل الحالات القاسية
وينعمون بكل لحظة سكون وهدوء
في عاصفة هوجاء ....
أظلمت فيها السماء ....
وتلاطم البحر بأمواجٍ كالجبال
صار هذا المركب يترنح يميناً ويساراً
مرة يرتطم بصخرة ومرة تقلبه موجة
إلى أن وصل لقلب العاصفة
فدار بمركزها بقوة وعنفوا نية
هدأ البحر فتفقد الربان ركّابه
لم يجد صاحبنا فقد حذفته الأمواج بعيداً
هذا هو صاحبنا الذي سافر ليعمل ولم يعد
وهذه قصته عندما كان في الرابعة عشر من عمره
وعندما انشرخ هذا المركب فتفرقت العائلة
حيث ذهبت امه ومعها اخوانه الأشقاء بجهة
وذهب والده بزوجته الجديدة بجهة اخرى
تفرقت العائلة فكان أول شرخ بهذا المركب
امه امرأة فاضلة وكذلك ابيه
لكن الأقدار والفراق لايميز
فصوارف الزمن تدوس على الجميع بدون تمييز
فمنهم من يصبر ويصابر... ومنهم من يجزع وينتهي امره
عندما انتهى موسم الحج قدم رجل من دولة عربية بأفريقيا إلى ام يوسف فعرض عليها أن يذهب يوسف معه لطلب الرزق والعمل هناك
رفضت ولكنها لم تصمد
لم تصمد بعد الحاح من يوسف الذي يتطلع ان يساعد على درء صدع هذا البيت فوافقته امه
وافقته بعد أن اتخذت قرارها بنفسها
فلا يعلم اباه أو اخاه الكبير بما كان
ولا ندري ما الذي يدور بخاطره وما الذي ينتظره
وهل سيعود أم انه سيبقى هناك بطوعه وإرادته
ذهب يوسف
وغاب هناك شهراً ثم تبعه آخر والأيام تمر , وتتوالى الشهور
ويوسف بعيد لم يصل منه أي خبر أو رسالة
بعد تأخر ملموس حاول والده الإتصال بشتى الوسائل ولكن لا فائدة
لم يكن له أثر
بدأت معاناة الأم
وبدأت تتفتق جروح بقلبها
وبدأت الأيام باستلال خناجرها لتطعن قلب هذه الأم الثكلى
صارت تحس بأن أضلاعها حطباً تستعر به نار الشوق
فما يكاد يجف جرح إلا وقد تفتقت جراح
هي تعرف كيف تتقي هذه الطعون
فليست بعيدة عن ربها
فلم تيأس رغم مرور السنين
كل سنة تمر ينسى الناس يوسف ويعتقدون هلاكه
ويزيد في قلب هذه الأم الثكلى حسن الظن بربها
وما أجمل هذه الصفة
عندما تغيب الشمس تصل حالات اليأس لديها الذروة
حتى تكاد تهلكها الأحزان
فتنتظر بزوغها من الغد ليولد أملٌ جديد
فتغيب على ما طلعت عليه
همٌ يغادرها ليولد من جديد ... جرحٌ يجف ليتفتق من جديد
فصارت تتقلب بين الخوف والرجاء وهذا حال المؤمن
تمزقها سهام الألم ليداويها بلسم الأمل
تمر بها الوساوس والأفكار فتبحر مع اليأس حتى تكاد تغرق
فتجد حبل الرجاء بين يديها لتتعلق به
فهي ترجو من لا يغفل سبحانه
واثقة بأن الله سيعيده رغم السنين
عندما يقبل الليل تختلي بنفسها فتطلق لخيالها العنان
لتعيش مع فلذة كبدها
تعيش معه لحظة بلحظة
تقلب أشياءه وتنظف فراشه المهجور من سنين
فتصغي أذنها للباب لعله يُطرق
فتهيم مع طيفه الذي يسكن داخلها إلى أن تفيق لتذرف دمعةً حارقة فتضع يدها على جبينها باكية وكأنها تسترحم لحظات الألم لتخفف وطأتها
أنها تراه مع كل نجمة تلمع بالسماء
فعندما تنتشر النجوم في صفحة السماء الحالكة السواد
تنظر تلك الأم المكلومة إليها فتهيم معها بحديث النفس
أيتها النجوم هل هو يراكِ كما أراك أم انه توارى تحت الثرى
فتنتفض عند هذا الهاجس ,
إنها لا تريد أن تتخيل هلاكه ولا مجرد خيال
فتنغرس سكاكين تقطع نياط قلبها
ما أصعب فراق الأحبة
وما أصعب أن نجهل هذا الفراق
لو كان ميتاً فلن يتعدى الحزن أشهراً ثم ننعم بنعمة النسيان التي جعلها الله سبحانه رحمة بنا
ولكن الجرح يتفتق في كل يوم
ليس سهلاً أن ننتظر أبناءنا الغائبون يوماً واحداً ونحن لا ندري عنهم شيء
فتخيلوا سبعة وعشرون سنة من الانتظار ومن الهواجس والخوف والألم والأمل
سبحان الله كيف يتحمل البشر هذه الأحزان التي يخيفه مجرد التفكير فيها
لكنه الإيمان والتصديق والرضا
غارت النجوم وأم يوسف في مكانها تناجي طيف حبيبها الغائب
حبيبها الذي تأمل بلقائه مع إشراقة كل صبح
فقط هي تريد أن تعلم هل لازال يوسف حياً أم انه صار تراباً
إن كان لازال حياً فستفرح حتى لو لم تكن تعرف أي أرض تقلّه
وأي سماء تظلّه
وإن كان قد هلك فستطوي جراحها في قلبها وتستسلم لما قدر الله وتدعو له بالرحمة
والسنين تنقضي وكل عام ينصرم يزيد من معاناتها فكلما طال الفراق
كلما قل الأمل باللقاء وعظم البلاء ولكن الأمل في قلبها كشمعة بعيدة بظلمة بيداء
ليس بيدها إلا التوسل إلى بارئها وخالقها
هي لم تيأس من رحمته
فكلما جنّ عليها الليل واختلت بنفسها تذكرته وأسرعت إلى مصلاها
رافعة أكف الضراعة إلى الحي الذي لا يموت
يا ربي تعلم ما بقلبي من وجد . وأنت سبحانك ارحم بي مني به
يا حي يا قيوم
أسألك وأعلم أنه لا يعجزك شي ولا يخفى عليك شيء
يا ربي اعد لي حبيبي
يا خالقي ارحم دموع أمٍ تتوسل بقلبٍ يتفطر حزناً
لا يعلم بحالي إلا أنت ولا يعلم مكانه إلا أنت
أعده لي كما أعدت يوسف لأبيه بعد الغياب
بين يديك يا خالقي تتناثر أحزاني وتنهمر دموعي فلا تحرمني وأنت أرحم الراحمين
اللهم كما أرضيتني بما قسمت ففرحني بما أعطيت
أمرك بين الكاف والنون وأمري بين يديك
سبحانك ملَكٌ قادر على كل شيء لا تغفى عن ملكك ولا تأخذك سنة ولا نوم
ملوك الأرض ناموا وعجزوا وأنت قيوم السماوات والأرض حيٌ لا تموت ولا تغفل
يا ربي ارحم ضعف من أنهكتها الأحزان وأحرقت مقلتيها الدموع
فترفع يديها بالظلام عاجزةً عن الكلام فقط تتفكر بقدرة خالقها لتزيد ثقة ببارئها
دموعها على خديها بخلوة لا يراها إلا من لا يغيب عنه شيء
حتى يصبح الصباح فتصبح هانئة مطمئنة وكأنما رمت ما بها من أحزان
نعم أنها رمتها بين يدي العظيم
وهذا ديدنها في كل يوم يمر ... وما أطول الأيام
تمر السنين وهي صابرة محتسبة طاوية جراحها بقلبها حتى عن أقرب الناس لها
هناك في الغربة
يوسف يعيش بلا أهل ولا أقارب
يعيش كغصن شجرة قُطع فأبعدته السيول بعيداً عن باقي الأغصان
غصن ذبل فانغرس بأرضٍ لم تكن صالحة لينموا بها
هناك طفل يكبر ناسياً جذوره وأهله
قد يكون الخوف من العودة كان سبباً في نسيانه أو تناسيه
فكبر وتعود على حياة البعد
فسوَّف بالعودة واستصعبت عليه كلما مرّ الزمن
أبعدته الأيام واللهث خلف لقمة العيش
فكبر وازداد خوفه وهيبته من العودة حتى تغيرت الأحوال
وتبدلت الأماكن فلم يعد يدري أين كانت جذوره
فعاش وحيداً يائساً
نسي أو أنه استصعب البحث فلم تكن هويته هي نفسها
عاش مواطناً بتلك البلد
ولكن عين الله لا تنام
عندما صارت العودة شبه مستحيلة بالنسبة له
كانت هناك يدين ترتفع طالبة رحمة ربها
فاستجاب الله لها بعد ما ضربت أروع معاني الصبر
فهيأ الله له أسباب العودة رغماً عنه وبدون تخطيط منه
فسبحان مسبب الأسباب
صار رجلاً لا يعلم أين أهله ولكنه يجدهم بداخله كلما غاص بها ليبحث عن ماضيه الغائر
أراد الله لهذا الرجل أن يوقع عقد عملٍ مع أحد الشركات العاملة بالمملكة فقدم إليها ضمن من قدموا
نعم إنه ذهب بحثاً عن الرزق وعاد بحثاً عنه أيضاً
عاد ليعمل ولا يعلم عن أمه وأخوته شيء
فقد تبدل مسكنهم وتغير مكانهم فلا يعلم بأي مدينة أو حي يقطنون
وصل وعمل هنا ولا يعلم أين يجدهم ولكن الله أراد لتلك الأم أن ترى فقيدها فقد أرسلت سهام الليل وهي ترتجي من الله أن لا يردها
والله سبحانه أكرم وأرحم من أن يردّ يداً ضعيفة مرفوعة تسأله
ولكن لكل شيء قدرا
حتى ولو تأخرت الاستجابة فلله بذلك حكمة لا نعلمها.
لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدعُ بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل قيل يا رسول الله ما الاستعجال قال يقول قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجاب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء
هكذا هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ففي أحد الأيام كان قادماً مع أحد زملائه من مقر عمله إلى الرياض
فكانت الصدفة أنه غاص في ماضيه ولكن هذه المرة كان يفكر بصوتٍ مسموع
وبالصدفة وليست صدفه ولكنه تقدير مقدر الأقدار
صار زميله هذا يعرف أهل يوسف
فما كان منه إلا أن دله عليهم
دله على البيت الذي يضم تلك المرأة التي لازالت تأمل من الله عودته
سبحان الله وبدون أي مقدمات يُطرق الباب عليها
الباب الذي انتظرته طويلاً فلم يُطرق
فتفتح الباب وإذا به من غاب عنها
ما أروع هذه الساعة التي تَجمّع فيها الحزن مرة واحدة ليذهب بعيداً
نعم تجتمع أحزان سنين طوال بلحظة اللقاء
فتذرف العين وينكوي القلب لتفر الأحزان وكأنها اجتمعت لتفر وتتبدل بأفراح تتسلل من بين الدموع
أفراح تخرج من بين ركام الهموم كما يخرج النور من مصباحٍ أُشعل في وادٍ شديد الظلام
فصار يزيد رويداً رويدا
ما أجمل النور عندما يكسر وحشة الظلام
وما أجمل الفرح عندما يحطم جبروت الحزن
لكِ الله يا أم يوسف
لكِ الله يا من جعلتي من الحزن تقرباً وتوسلاً ومن الفرح شكراً وحمداً
ماأكثر الأشياء التي كنت اتمنى أن أقولها اليكم
، و ما أكثر المشاعر التي أحببت أن ابثها اليكم .ايها الراقين في منتدى امسيات
و لكني عندما أردت أن أكتب هذه الكلمات
، وجدتني عاجزا لا أستطيع كتابة شيء ..
و لكن بقت جملة واحدة تتردد على لساني، لا أدري لماذا؟
مبدعون حقا لا تحرمونه من نبض ابداعتكم
04-08-2024, 06:57 PM
قصة قلب يتفطر حزنا
تسلمين ياقلبي علي الاهداء
العرض العادي
